
تواجه موريتانيا اليوم أزمة سياسية تتجاوز حدود الأداء الحكومي أو التنافس الحزبي، لتطال جوهر الثقافة السياسية السائدة، التي باتت قائمة - في أغلبها - على التزلف والانتهازية، أكثر من اعتمادها على مبادئ راسخة أو رؤى وطنية مستقبلية.
إنها أزمة ضاربة في العمق، مشبعة بإرث استعماري معقد ومطعمة بابتكارات محلية تثير السخرية والأسى في آنٍ واحد.
وكغيرها من الدول التي عاشت تحت نير الاستعمار، ترث موريتانيا منظومة سياسية هجينة، تتداخل فيها بقايا الماضي مع صيغ حاضرة، غلبت عليها المظاهر الشكلية بدل المضمون الديمقراطي.
غير أن ما يميز الحالة الموريتانية، تحديدًا، هو ترسخ ثقافة سياسية تقوم على الولاء الشخصي والنفاق، إلى الحد الذي أصبحت فيه تلك الممارسات شبه مؤسسية، واضحة للعيان في كافة مفاصل المشهد السياسي.
ففي ظل غياب تقاليد "التقاعد السياسي" واستمرار ذات الوجوه في مراكز القرار لعقود، تراجعت المنافسة الجادة، وغابت البرامج الفكرية، لتحل محلها ثقافة المديح والتمجيد كوسيلة مضمونة للترقي في سلم السياسة.
ولعل هذا ما يفسر التحوّل التدريجي للحياة السياسية إلى ما يشبه المسرح العبثي، تتداخل فيه الطرافة مع المأساة.
فعلى سبيل المثال، لا يزال الموريتانيون يذكرون تعليقًا ساخرًا لرئيس سابق، تساءل متعجبًا عن بلوغ عدد منتسبي حزبه ثمانية ملايين، في بلد لا يتجاوز عدد سكانه ثلاثة ملايين ونصف. فجاءه الرد من سياسي ساخر: "هذا الا الانس، مزال الجان كامل ما فات انتسب!"، في تجسيد دقيق لحالة العبث السياسي.
ولا تقل طرفة أخرى في دلالتها، حين خاطب أحد السياسيين رئيس الجمهورية قائلًا: "أصبحت مهمومًا بمصير موريتانيا بعدك، لكن الهم زال لما تذكرت وجود نجلك فلان"، في إشارة فاضحة إلى منطق التوريث السياسي، الذي لا يزال يحكم عقلية البعض رغم كل الشعارات الديمقراطية.
أما ظاهرة المديح المبالغ فيه، فقد بلغت حدّ اختلاق أضرحة أسطورية لأسلاف بعض الرؤساء، أو نعتهم بأوصاف أقرب إلى الملاحم، كـ"القائد الخالد" و"المرجع والمدرسة"، قبل أن تنقلب تلك الأوصاف إلى شيطنة مطلقة بمجرد مغادرتهم للسلطة.
المثير للقلق، أن هذه الممارسات لم تعد مجرد سلوكيات فردية، بل تحولت إلى نمط اجتماعي مقبول، يجد له أنصارًا ومدافعين، ويستند إلى شبكة من الولاءات العائلية والشخصية التي تشل أي مشروع إصلاحي حقيقي.
وفي ظل هذه الثقافة السياسية المتكلسة، يبقى مستقبل الديمقراطية الموريتانية رهين تحوّل جذري في الوعي السياسي، يعيد الاعتبار للبرامج والأفكار على حساب الأشخاص والمصالح.
فلا أمل في تقدم سياسي حقيقي، ما دامت الولاءات تُمنح للأفراد لا للوطن، وما دامت السياسة أداة لإعادة إنتاج الفشل بدل أن تكون وسيلة لتحقيق التنمية والعدالة.
وفي انتظار بروز طبقة سياسية جديدة تنحاز للمواطن لا للسلطة، يبقى المواطن العادي هو من يدفع الثمن، بين حاضر مرتبك ومستقبل لا يزال في كنف المجهول.
مولاي الحسن مولاي عبد القادر