
مع كل استحقاق انتخابي جديد في موريتانيا، تعود إلى الواجهة إشكالية تزايد نفوذ المال داخل العملية السياسية، وتحديدًا من خلال ترشح رجال الأعمال والتجار للمناصب الانتخابية.
وبينما يُفترض أن تكون الانتخابات أداة لخدمة الصالح العام وترسيخ الممارسة الديمقراطية، تظهر مؤشرات مقلقة على تحوّلها إلى وسيلة لحماية المصالح الخاصة، في ظل غياب ضوابط صارمة وآليات فعالة لمراقبة مصادر التمويل ومن يقف وراء المرشحين.
انطلاقًا من الإيمان بأهمية المشاركة الفاعلة في الشأن العام، ومن باب الحرص على دعم حوار وطني جامع بين مختلف الأطياف السياسية الموريتانية، لا بد من لفت الانتباه إلى واحدة من أبرز الظواهر التي تعيق مسار الإصلاح الحقيقي وتعزّز حالة عدم الاستقرار السياسي، وهي ظاهرة التداخل الخطير بين المال والسياسة.
لقد تحوّلت الانتخابات، التي يُفترض أن تكون منصة تنافس شريف بين كفاءات تمثل الشعب وتسعى لتحقيق تطلعاته، إلى ساحة يهيمن عليها أصحاب المال والنفوذ، وهذا ما يستدعي مراجعة جادة للواقع السياسي، لضمان أن يكون الترشيح مبنيًا على الكفاءة والوعي السياسي، لا على الثروة أو المصالح الخاصة.
ومن المؤسف أن المشهد السياسي في موريتانيا شهد خلال العقود الأخيرة تصاعدًا في ظاهرة ترشح رجال الأعمال، لا سيما أولئك الذين يرتبطون بأنشطة تجارية تفتقر للشفافية، أو تحوم حولها شبهات قانونية.
بعض هؤلاء يدخل المعترك السياسي لا بدافع الخدمة العامة، بل بهدف الحصول على حصانة تحميهم من الملاحقة القضائية، أو لفتح أبواب النفوذ والتأثير في السياسات العمومية بما يخدم مصالحهم الخاصة.
إن هذا التوجه يطرح تساؤلات جدّية حول طبيعة الديمقراطية التي نريد ترسيخها. فالمنصب السياسي تحوّل لدى البعض إلى استثمار شخصي، يستخدم للوصول إلى العقود العمومية، أو لسنّ تشريعات تخدم فئات ضيقة على حساب الصالح العام.
ولا يقتصر الخطر على البعد القانوني فقط، بل يتعداه إلى التأثير السلبي في ثقافة المواطن وثقته في المؤسسات المنتخبة.
فحين يرى الناخب أن صوته يُشترى بالمال، وأن ممثليه لا يدافعون عن مصالحه، بل يسعون وراء نفوذهم وأرباحهم، فإن ذلك يُكرّس العزوف السياسي ويفتح المجال لفقدان الأمل في أي إصلاح.
وتزداد خطورة هذه الظاهرة حين تقترن بالقبلية والولاءات الضيقة، إذ تتحوّل العملية الانتخابية من منافسة برامج وأفكار إلى سوق للمزايدات، يُستخدم فيها المال لشراء الولاءات، وتُستغل فيها البُنى التقليدية لتكريس النفوذ بدلاً من تجاوزها نحو دولة مؤسسات.
إن مواجهة هذا التحدي تتطلب حزمة من الإصلاحات تبدأ بتشريعات صارمة تنظم تمويل الحملات الانتخابية وتمنع تضارب المصالح، وتُخضع خلفيات المرشحين للتدقيق، وتُعزز من دور هيئات الرقابة والمجتمع المدني في مراقبة الانتخابات.
كما يجب أن يترافق ذلك مع حملة توعية واسعة تستهدف الناخبين، لرفع مستوى الوعي السياسي، وتغليب الاعتبارات الوطنية على الانتماءات الضيقة، وتشجيع الكفاءات الوطنية على دخول الحياة العامة دون أن تكون محكومة بلعبة المال والنفوذ.
فلا مستقبل ديمقراطيًا حقيقيًا لمجتمع تُختزل فيه العملية السياسية في معادلة المال مقابل الصوت، ولا أمل في بناء مؤسسات قوية إن لم تكن تعكس إرادة حقيقية تمثّل هموم الشعب وتعمل لخدمته، لا لخدمة مصالح فئوية آنية.
إن الإصلاح الانتخابي في موريتانيا لن يكتمل ما لم يُبنَ على ثقافة سياسية ناضجة، وقوانين عادلة، ومؤسسات فعّالة.
والرهان الحقيقي اليوم هو على وعي الناخب، وشجاعة النخبة السياسية، وصرامة الدولة في حماية الحياة الديمقراطية من هيمنة المال وتغوّل المصالح الضيقة.
مولاي الحسن بن مولاي عبد القادر