
تحقيق: مولاي الحسن مولاي عبد القادر
مع انطلاق الحملة الانتخابية في موريتانيا، لجأت الأحزاب السياسية إلى استخدام الرموز كوسيلة تواصل بصري مباشر مع المواطنين، في مشهد يكشف عن حضور قوي للدلالة الرمزية في العمل السياسي. إلا أن بعض هذه الأحزاب بدت موفقة في اختياراتها، بينما عانت أخرى من التباس دلالي أو اغتراب رمزي يكشف عن هشاشة في العلاقة بين الشعار والهوية السياسية.
الرموز في السياسة: مرآة الثقافة والتاريخ
في عالم يتسارع فيه إيقاع الرسائل البصرية، تبرز الرموز بوصفها مفاتيح لفهم الخطاب السياسي ومرآة تعكس الخلفية الثقافية والاجتماعية للأحزاب. فكما أن الدب الروسي أو النسر الأمريكي أو الديك الفرنسي ترسخوا كرموز وطنية، تسعى الأحزاب الموريتانية لإيجاد ما يعبر عنها في الذاكرة الجمعية.
غير أن خلق الرموز أو التلاعب بها ليس بالأمر الهيّن، فهي جزء من الموروث الثقافي المتراكم، تحمل معها تراكمات ذهنية يصعب تجاوزها أو اختزالها في سياق انتخابي عابر. إنها تنتمي إلى "رأسمال رمزي" يتجاوز اللحظة السياسية ليغوص في عمق المخيال الجمعي.
رموز انتخابية تطرح أسئلة هوية
لقد طرحت اختيارات الأحزاب الموريتانية لرموزها الانتخابية أسئلة جوهرية: ما مدى انسجام هذه الرموز مع التوجهات الفكرية والسياسية للأحزاب؟ هل تعكس فعلاً هوية الحزب وثقافته؟ أم أنها مجرد استعارات بصرية بلا جذور ولا دلالة حقيقية؟
بعض الأحزاب توفقت في استلهام رموز مشبعة بالدلالة، ذات حضور اجتماعي وتاريخي عميق، بينما وقعت أخرى في شرك رموز مغتربة عن البيئة المحلية، أو فاقدة لأي عمق رمزي.
خريطة الرموز: من السنبلة إلى الحاسوب
تشير لائحة الرموز المستخدمة إلى تنوع غني يمكن تصنيفه إلى خمسة حقول دلالية:
1. رموز نباتية مثل النخلة والسنبلة وغصن الزيتون، وتحيل إلى الخصب والأصالة والارتباط بالأرض.
2. رموز حيوانية كالحصان، السبع، الغزالة، والجمل، ترمز للقوة والسرعة والصبر.
3. رموز جسدية مثل الكف والعين والأيادي المتشابكة، تحمل دلالات الحماية والتعاون والوحدة.
4. رموز ضوئية كالشمس، الشمعة، الهلال والمشعل، تعبر عن النور والتغيير والرؤية المستقبلية.
5. رموز أدوات وموروث كالكتاب، القلم، الميزان، السيف، الخيمة، الحاسوب، والعمارات الحديثة، وتشير إلى قضايا العدالة، الحداثة، التعليم، الأصالة والتنمية.
قراءة رمزية في مشهد سياسي متشظٍ
ما يلفت الانتباه هو غياب الانسجام بين بعض الرموز وهويات الأحزاب التي تستخدمها. بعض الرموز مستوردة من سياقات ثقافية وسياسية أجنبية، مما يفرغها من معناها المحلي، ويجعلها أقرب إلى "التزيين البصري" منها إلى التعبير السياسي العميق.
وفي مقابل ذلك، نجد رموزًا نجحت في اختزال سرديات وطنية، وربما تتفوق دلالتها حتى على البرامج الانتخابية الغائبة أو المكررة لدى كثير من الأحزاب.
الرموز أداة تأثير لا يمكن الاستخفاف بها
تكمن خطورة الرمز في كونه أداة ذات قوة تأثير نفسي وعاطفي، تشبه إلى حد كبير العلامات التجارية. فكما تؤثر أسماء المحلات أو تصميمات المنتجات على سلوك المستهلك، فإن الرموز الانتخابية قد تؤثر على قرار الناخب، لا سيما في ظل ضعف الثقافة البرمجية وضعف التمايز السياسي بين الأحزاب.
غياب المثقف الرمزي.. خلل في المشهد السياسي
الملاحظة اللافتة هي أن كثيرًا من الأحزاب لا تستند في اختياراتها إلى دراسات سيميائية أو أنثربولوجية، ما يشي بغياب حضور المستشار الثقافي في صناعة القرار السياسي، وهو ما يفتح الباب لسوء الفهم أو العبث الرمزي.
فالمطلوب اليوم ليس فقط تصميم شعار، بل بناء "هوية رمزية" متماسكة، تستلهم من الثقافة الشعبية وتتفاعل مع المخيال الجمعي، وتعبّر بدقة عن التوجه السياسي والبرنامج الواقعي للحزب.
خلاصة: الرمز ليس زينة بل لغة كاملة
إن الرمز السياسي ليس مجرد عنصر جمالي، بل هو اختصار مكثف لهوية الحزب ومشروعه السياسي، وإن فشل الحزب في اختيار رمزه يعادل فشله في التواصل مع الناخب وفهم المجتمع الذي يخاطبه.
وعليه، فإن على الأحزاب الموريتانية مراجعة رموزها بعين نقدية، مستندة إلى الوعي الثقافي والتاريخي، وإدراك أهمية الرمز كأداة سياسية لا تقل شأنا عن الخطاب والبرنامج الانتخابي.