
في مشهد يعكس حالة من الانفصام المؤسساتي وازدراء واضح للرأي العام، خرج رئيس محكمة الحسابات بتصريح صادم يصف فيه ما ورد في تقرير محكمته – الذي كُشف عنه مؤخراً للرأي العام – بأنه مجرد "أخطاء تسيير"، في محاولة متأخرة ومثيرة للريبة لامتصاص غضب شعبي آخذ في التصاعد، عقب الكشف عن اختلالات مالية بمئات المليارات.
أي عقل يمكن أن يتقبل أن مبلغًا يتجاوز الأربعمائة مليار من أموال هذا الشعب الفقير يمكن أن يُصنف ببساطة تحت خانة "أخطاء تسيير"؟
هل أصبح الفساد البنيوي والعجز الإداري الفاضح مجرد زلات قلم؟
أم أن الشعب مطالب اليوم بابتلاع كل هذا التلاعب اللغوي وتزييف الحقائق باسم "لغة التقارير" و"المصطلحات الإدارية"؟
تقرير محكمة الحسابات – الذي وصل إلى رئيس الجمهورية قبل أيام – لم يشر إلى انحرافات بسيطة أو تجاوزات إدارية عابرة، بل رصد اختلالات جسيمة تصل إلى مئات المليارات، وهو رقم لا يمكن لعاقل أن يصنفه إلا في خانة العبث المالي، وربما حتى النهب المنظم.
وإذا كان رئيس المحكمة يهوّن من شأن هذه المبالغ، فإن السؤال الذي يطرحه الشارع اليوم – وبحق – هو: كم يجب أن يُختلس أو يُهدر حتى يُوصف بأنه فساد؟
أم ننتظر حتى يختفي المال العام كله حتى يخرج علينا بمصطلحٍ جديد؟
ثم، كيف يمكن لمؤسسة دستورية من حجم وأهمية محكمة الحسابات أن تصدر تقريرًا بهذه الخطورة، ثم يتراجع رئيسها بهذه البساطة أمام ضغط الرأي العام أو ربما أمام ضغوط سياسية لم يُفصح عنها؟ وهل أصبحت هذه المحكمة مجرد أداة شكلية تُصدر تقارير للعرض فقط، لا للمحاسبة، ولا حتى لفتح تحقيقات جادة؟
ما قام به رئيس المحكمة هو ببساطة محاولة فاشلة للتستر على واقع مرير، أو في أحسن الأحوال، للتخفيف من وطأة ما ورد في تقرير رسمي موثق.
لكن مثل هذه التصريحات لا تزيد الوضع إلا اشتعالًا، لأنها تكشف حجم التواطؤ والصمت الذي يحيط بمؤسسات الرقابة، وتؤكد أن محاربة الفساد في هذا البلد ما تزال مجرد شعار فضفاض يُستعمل لتجميل الصورة أمام الخارج، لا أكثر.
وفي ظل هذا التناقض بين ما ورد في التقرير وما صرح به رئيس المحكمة، بات من الضروري اليوم المطالبة بلجنة تحقيق مستقلة تراجع هذا التقرير سطرًا سطرًا، وتحدد المسؤوليات، وتضع النقاط على الحروف.
فالشعب لم يعد يحتمل مزيدًا من المراوغات، ولا مزيدًا من "الأخطاء" التي لا يدفع ثمنها إلا هو وحده.
ختامًا، لا بد من التذكير أن المال العام ليس ملكًا لمؤسسة أو شخص، وأن الصمت على مثل هذه الفضائح – مهما حاول البعض تلطيفها – هو في حد ذاته شراكة ضمنية في الجريمة، والشعوب التي تُدار بهذه الطريقة، لا يمكن أن تُبنى عليها دولٌ تحترم نفسها.
مولاي الحسن مولاي عبد القادر