
تشهد الموسيقى الشعبية الموريتانية، المعروفة محليًا بـ“أزوان”، تراجعًا مقلقًا في الأداء والرسالة والدور، تراجعًا لا يمكن تفسيره بعامل واحد، بل هو نتيجة تراكمات من الإهمال، وسوء الفهم، وغياب الرؤية، حتى بات هذا الفن العريق مهددًا بالتحول من هوية ثقافية جامعة إلى مجرد هواية عابرة لا تحمل من روحها الأصلية إلا الاسم.
فـ“أزوان” ليس طربًا للتسلية، ولا خلفية صوتية لمناسبات اجتماعية، بل هو فن متكامل رسم تاريخ مجتمع البيظان، ووثق وجدانه، وصاغ ماضيه وحاضره بلغة النغم والإيقاع.
هو سجل غير مكتوب، لكنه محفور في الذاكرة الجمعية، انتقل عبر الأجيال، وحافظ على خصوصيته وسط محيط متغير.
غير أن الإشكال الجوهري الذي يواجه هذا الفن اليوم يكمن في محاولة اختزاله وحصره في فئة بعينها، وكأنه ملك للمطربين أو لأسر فنية محددة، في حين تؤكد المصادر التاريخية والاجتماعية أن الموسيقى الشعبية الموريتانية كانت نتاج تفاعل جماعي، شاركت في صقلها نخبة من مجتمع البيظان، وواكبت تطورها، وأسهمت في بلورة أنماطها وإيقاعاتها، حتى أُطلق عليها وصف “الهول”، لهول تأثيرها في المجتمع البيضاوي، وقدرتها على تحريك الوجدان الجماعي والتأثير في السلوك والذوق العام.
لقد أنجبت هذه الموسيقى أجيالًا من الفنانين الكبار الذين لم يكونوا مجرد مؤدين، بل صناع مدرسة فنية متكاملة، من أمثال سدوم ولد إنجرتو، وانبيط ولد حيبل، وسيد أحمد لآوليل، وغيرهم من رواد الرعيل الأول، واللاحق من أهل أباش من أبناء آكمتار وابراهيم، لم يقدموا أغنيات عابرة، بل أطلقوا ثورة موسيقية شعبية حقيقية، احتضنها أجواد المجتمع ومشاهيره، وشكلت في فترة من الفترات توثيقًا موسيقيًا لتاريخ أمة بكاملها.
ومع تطور الزمن، شهدت الموسيقى الشعبية، عزفًا وغناءً، عصر ازدهار حقيقي، تجلى في النماذج المثالية التي جمعت بين جودة العزف، وقوة النص، وحسن الصوت.
فكان سيداتي ولد آبه وديم، والخلفية، ومحمد ولد حمبار رحمهم الله، وسيدي ولد دندني وسدوم ولد أيده، وسكتو، وبوياكي ولد نفرو، وغيرهم كثير، رموز مرحلة حافظت على جوهر الفن وخصوصيته، وقدمت نموذجًا فنيًا راقيًا اهتز له المجتمع طربًا وتأثرًا.
غير أن هذا الازدهار لم يدم، فبرحيل بعض هؤلاء العمالقة، واعتزال آخرين، غابت المدرسة، وتراجع الميزان، وفتح الباب على مصراعيه أمام موجات دخيلة، لا تحترم القواعد، ولا تفهم روح “أزوان”، ولا تعي مسؤوليته التاريخية.
حملات مضادة، في ظاهرها تطوير، وفي جوهرها تفريغ وتشويه، باتت تشكل خطرًا حقيقيًا على الموسيقى الشعبية الموريتانية.
وزاد الطين بلة التأثير غير المدروس للآلات الموسيقية الحديثة، التي اقتحمت الفضاء الفني دون ضوابط، فغلب الصوت الصناعي على النغمة الأصيلة، وتراجع الحس المقامي والإيقاعي، وتلاشت الفروق الدقيقة التي كانت تميز “أزوان” عن غيره من الفنون.
إلى جانب ذلك، أسهمت تجاوزات بعض القائمين على الفن، وانحدار مستوى بعض الفنانين، في إضعاف ثقة الجمهور، وتحويل هذا الفن من رسالة ثقافية إلى منتج استهلاكي سريع الزوال.
إن ما يحدث اليوم ليس مجرد تطور طبيعي، بل هو تراجع خطير، يهدد ديمومة فن يشكل أحد أعمدة الهوية الموريتانية. فإما أن يُستعاد “أزوان” بوصفه فنًا جامعًا له قواعده ورسالته ومسؤوليته، أو يُترك لينزلق أكثر نحو الهامش، حتى يصبح ذكرى جميلة من زمن مضى، بدل أن يظل نبضًا حيًا في وجدان المجتمع.
مولاي الحسن مولاي عبد القادر



















