
منذ إعلان التعددية النقابية، ظلت المركزيات النقابية في موريتانيا تجسيدًا صارخًا للتسييس والشخصنة، وبدل أن تكون حركات نضال من أجل العمال، تحولت إلى أدوات في يد الأحزاب السياسية، تُدار بعقلية الزبونية والانتماء، لا بمنطق الدفاع عن الحقوق.
لم يعد المواطن العادي يفرق بين أسماء النقابات، فالتسمية الحقيقية اختفت تحت ظلّ أسماء الأمناء العامين، تمامًا كما يُختزل المشهد الحزبي في أسماء الزعماء.
وهكذا، ذابت النقابات في الطيف السياسي المريض، واختلطت عليها المهام، فصارت "كائنات انتخابية" بلبوس نقابي، تُوزَّع بين المعارضة والموالاة، كلٌّ حسب موقعه من مائدة الحكم.
تعددية مشوهة ونقابات بلا قاعدة
في بلد يشهد أحد أسوأ مؤشرات تشغيل العمال واحترام حقوقهم، لا غرابة أن تجد عشرات النقابات والاتحادات والمركزيات، بعضها لا يتعدى أعضاؤه الثلاثة، تأسست على ورق ممهور بتزوير فاضح، وتزكية شكلية من الوزارة الوصية، في غياب تام لأي رقابة جدية.
والأسوأ أن هذا الفيض العشوائي في الترخيص النقابي لم ينتج إلا الفوضى والعبث، فأصبح لكل قبيلة أو تيار أو حتى شخصية "نقابتها الخاصة"، في استنساخ مبتذل لما آل إليه المشهد الحزبي، وكأن النقابة أصبحت بطاقة تعريف سياسية لا وسيلة دفاع عن الحقوق.
النقابات.. منبر التواطؤ بدل النضال
منذ عقود، لم تنجح أي من هذه المركزيات في تأطير علاقة متوازنة بين العامل ورب العمل.
لم تُنجز حوارًا اجتماعيًا حقيقيًا، ولم تقف يومًا موقفًا وطنيًا جامعًا دفاعًا عن عمال القطاعين العام والخاص.
بل تحولت إلى شاهد زور على مأساة العمال، تتقن الصمت، وتتقن أكثر استثمار معاناة الشغيلة للحصول على امتيازات أو تقاسم كعكة التمثيل الرمزي في المجالس واللجان.
تُستغل العمالة علنًا، تُنتهك القوانين باستمرار، ولا صوت يُسمع من النقابات.
عقود مؤقتة، تسميات عبثية مثل "متعاون"، "عقد إدماج"، "عقد دعم"، كلها تحايل على مدونة الشغل، وكلها تتم تحت أنظار منظمات نقابية يُفترض أنها الحارس الأول للحقوق.
رواتب تُقطع، موظفون يُفصلون، ولا أحد يحاسب، فالموظف والعامل الموريتاني يواجه ظروفًا قاسية أبرزها تدني الأجور، الاقتطاعات التعسفية، الفصل المفاجئ دون أي احترام لأبسط الحقوق.
ومع ذلك، لا وجود فعلي لمناديب عمّال منتخبين في معظم المؤسسات العمومية، ومن يُعيَّن يُختار بتزكية من المدير، الذي لا يفقه شيئًا في قوانين العمل والاتفاقيات الجماعية والدولية، ولا يعترف بها أصلًا.
حقل نقابي يحتاج إلى تطهير جذري
لا يمكن الحديث عن إصلاح سوق العمل أو تحسين أوضاع العمال دون تنظيف البيت النقابي أولًا.
فالحقل الذي يُفترض أن يكون صوتًا للمحرومين، صار عبئًا إضافيًا على مسيرة الحقوق والعدالة الاجتماعية.
لا بد من إعادة تأسيس المشروع النقابي على أسس وطنية، مهنية، مستقلة عن الولاءات السياسية والقبلية والعنصرية.
موريتانيا لا تحتاج مزيدًا من النقابات الشكلية، بل نقابة واحدة أو اثنتين تمثلان الشغيلة بحق، نقابات تبني ولا تتسول، تراقب ولا تساوم، تناضل ولا تبرر.
إن المركزيات النقابية في موريتانيا تحتاج إلى غربلة، لا مجاملة.
فقد تحولت إلى أحد أهم مظاهر التكلس والتواطؤ في الدولة.
والشغيلة لا يمكن أن تنتظر من نقابات ممسوخة، مشخصنة، ومسيّسة أن تدافع عنها.
المطلوب ثورة هادئة داخل العمل النقابي، تُعيد له هيبته وتُعيد للعمال كرامتهم.
مولاي الحسن مولاي عبد القادر