الفساد في موريتانيا.. منظومة محصّنة تتجاوز تقارير المحاكم

ثلاثاء, 10/21/2025 - 20:32

شكل الفساد بكل صوره وطبقاته اللغة الرسمية التي تتكلم بها الدولة الموريتانية منذ عقود، والهواء الذي تتنفسه مؤسساتها، والباب الذي لا يُغلق أمام من يريد الثراء السريع على حساب المال العام.
إن تقرير محكمة الحسابات الأخير الذي أثار ضجة واسعة لم يكن سوى مشهدٍ جديد من مسرحية طويلة ومكرورة ومملة، لم تغيّر في المشهد العام سوى أسماء "الضحايا". فالقائمة التي تضم ثلاثين شخصًا فقط، في بلدٍ يعيش الفساد في دمه، ليست إلا قناعًا مهترئًا لمحاولة إقناع الناس بأن هناك محاسبة وعدالة.
لكن أي عدالة هذه التي لا ترى إلا ما يُسمح لها أن تراه؟ وأي محكمة تلك التي تتجاهل أن الغالبية الساحقة من مسيّري المال العام، من وزراء وأمناء عامين ومديرين ومحاسبين، غارقون في الفساد حتى الآذان؟
لقد جاءت اللائحة لتُعيد إلى الأذهان فضيحة البنك المركزي التي أُغلقت صفحتها على عجل، بعد أن ضحّى النظام ببعض الأسماء الغير متوقعة لامتصاص غضب الشارع.
واليوم يُعاد المشهد نفسه، بذات السيناريو الذي تُقدَّم مجموعة صغيرة كـ"أكباش فداء"، بينما يظل الحيتان الكبار في مأمن من المساءلة، بل وربما في مواقع أعلى من تلك التي كانوا فيها ساعة ارتكاب الجرائم المالية.
منذ عقود، لم يعد الفساد في موريتانيا مجرد انحراف فردي، بل تحوّل إلى نظام حكم.
فالوزراء يخرجون من مناصبهم إلى الفلل في الخارج، والمسؤولون يبنون الثروات في زمنٍ قياسي، وكأنهم يشاركون في سباقٍ نحو من يسرق أكثر.
وفي المقابل، يُترك المواطن الفقير بين سندان الغلاء ومطرقة الفقر، في بلدٍ تُنهب خيراته بلا خجل.
لم يكن اختيار قطاعات بعينها، مثل الصحة والتشغيل وصوملك، في تقرير محكمة الحسابات اختيارًا بريئًا ولا بمحض الصدفة، وإنها قطاعات يمكن التضحية بها إعلاميًا دون أن تمسّ الأعمدة الحقيقية للفساد، تلك التي تختبئ في الوزارات السيادية، وفي دهاليز الصفقات الكبرى، وفي جيوب من صنعوا لأنفسهم حصانة من المحاسبة.
أيّ مكافحة للفساد لا تشمل الجميع هي مسرحية رديئة الإخراج.
فالفساد في موريتانيا ليس حالة استثنائية، بل هو ثقافة رسمية، وممارسة ممنهجة تبدأ من القمة قبل أن تتسرب إلى القاع.
لقد آن الأوان لأن نعترف بالحقيقة المرة، وهي أن الخمسة والستون سنة التي تلت الاستقلال كانت حقبة فسادٍ مستمر، بتفاوتٍ في الشكل لا في الجوهر.
وإن أي إصلاح جادّ يبدأ من نقطة واحدة، وهي التنازل عن كل الثروات المنهوبة بما في ذلك "البنوك"، لصالح خزينة الدولة، وفتح صفحة جديدة لا استثناء فيها ولا حصانة لأحد.
بدون ذلك، ستظل مكافحة الفساد في موريتانيا مجرّد شعار يُرفع في النهار، بينما تتقاسم الأيادي المال العام في الليل.
مولاي الحسن مولاي عبد القادر