"أعمارة النعمة" ودلالاتها السياسية في تاريخ موريتانيا الحديث

ثلاثاء, 12/02/2025 - 11:55

يشكّل تاريخ موريتانيا الحديث سلسلة من الأحداث المتشابكة بين مسار بناء الدولة من جهة، وتداعيات الصراع مع الاستعمار ومخلفات العنف السياسي من جهة أخرى.

ومن بين الملفات التي بقيت مثار جدل واسع حادثة “أعمارة النعمة” عام 1962، وما ترتب عليها من محاكمات عسكرية وإعدامات قيل إنها جرت خارج الأطر القضائية الطبيعية، في لحظة كان فيها النظام السياسي الوليد يبحث عن تثبيت شرعيته داخليًّا وخارجيًّا.

بين الرواية الرسمية والروايات الشعبية

تُجمع المصادر على أنّ عملية 29 مارس 1962 كانت عملية مقاومة موجَّهة ضد حامية فرنسية في النعمة، وأسفرت، بحسب الروايات، عن قتلى وجرحى في صفوف الفرنسيين وأعوانهم.

غير أن الخلاف يتركز على ما بعد العملية، ففي حين عُرض الحدث رسميًّا بوصفه "عملاً تخريبيًّا" تهدد به مجموعة مسلحة أمن البلاد الناشئة، ترى روايات شعبية ومؤرخون محليون أنه كان عملاً من أعمال الجهاد والمقاومة المتأخرة ضد بقايا النفوذ الفرنسي.

ووفق هذه الروايات الأخيرة، فقد ضمت العملية عشرات المشاركين، غير أن السلطات، بقيادة الرئيس المختار ولد داداه آنذاك، ركّزت المسؤولية على عدد محدود من المتهمين لا عهد لهم باستعمال السلاح، واتخذتهم كبش فداء، أبرزهم:

الشريف أماعلي ولد الحبيب

الشيخ ولد الفاظل

سيد أحمد ولد اسويدات

ويذهب منتقدو النظام في ذلك الزمن إلى أنّ أحكام الإعدام التي نُفذت بحق هؤلاء كانت قاسية وغير عادلة، وأنها جاءت في سياق رغبة السلطة في طمأنة الفرنسيين وإظهار قدرتها على ضبط الأمن بعد أشهر قليلة من الاستقلال.

المحاكمة

تُوصف المحاكمة، في الذاكرة الشعبية، على أنها كانت محاكمة عسكرية صورية، جرت خارج القضاء المدني، حُرم المتهمون فيها من الدفاع الكافي.

طُبِّقت فيها إجراءات استثنائية لاسترضاء المستعمر بدعوى “حماية الدولة الجديدة”.

ويرى نقاد ذلك العصر أن السلطة سعت من خلال هذه المحاكمة إلى تأسيس هيبتها عبر نموذج ردع قاسٍ، في لحظة كانت فيها تعتمد سياسيًّا واقتصاديًّا على الدعم الفرنسي، رغم نهب مواردها.

وبالتالي، يقرأ البعض القرار باعتباره مساهمة سياسية في كسب دعم المستعمر السابق، أكثر منه خطوة تهدف إلى تحقيق عدالة راسخة.

مفارقات التا يخ

لا يزال ملف "أعمارة النعمة" من أكثر الملفات تعقيداً في تاريخ موريتانيا، حيث يُعتبر أول حالة إعدام سياسي بعد الاستقلال.

وتشير الكثير من الآراء إلى أن غموض هذا الملف يؤثر بشكل مباشر في الذاكرة الجماعية للمجتمع الموريتاني، ولا يمكن إغلاقه دون محاسبة حقيقية.

وتستحضر الذاكرة الشعبية مفارقة مؤثرة تتمثل في أنّ الزمن دار لاحقًا بالرئيس المختار ولد داداه نفسه، فوجد نفسه، بعد انقلاب 1978 سجينًا في اخويبت ولاته، ما أتاح له فرصة في التأمل واستخلاص العبر، وهو يراقب أحياء المدينة التاريخية حيث الفن المزين بالخط الولاتي، وقد توسط منزل الشريف أماعل الذي قدمه قربانا للفرنسيين المدينة التاريخية، وبدى ما يسمى "القرب" منتصبا على المنزل، وهوالمكان الذي كان الشريف يتلو فيه القرآن، ويعتكف داخله في شهر رمضان.

هذه الصورة وإن بدت رمزية، استُخدمت أدبيًّا لتفسير "عدالة التاريخ" أو "ردّه للدين"، لكنها تبقى قراءة وجدانية لا تُلزم التحليل السياسي، وإن كانت تكشف حجم الحضور الوجداني للقضية في المخيال المحلي.

ولا تقتصر المسؤولية على الرئيس السابق، بل تُذكر في بعض الروايات الشعبية أسماء مسؤولين شاركوا في الإجراءات القضائية أو الإدارية المتعلقة بالملف، ومنهم من تولى لاحقًا مناصب عليا في الدولة.

ويُشار أحيانًا في الخطاب الشعبي إلى الرئيس السابق معاوية ولد الطايع الذي كان حينها كاتب الضبط الذي حرر حكم الاعدام الظالم بحق هؤلاء الشهداء، وهو يجد نفسه الآن ملاحق بملف ارث إنساني، قد لا يقبل بأقل من رأسه.

إن التباين في تفسير الرواية والأحداث يشير إلى أن تاريخ العنف السياسي في موريتانيا سلسلة مترابطة من الملفات غير المغلقة.

ومع ذلك، تبقى هذه قراءات سياسية وشعبية تحتاج إلى توثيق أكاديمي وتدقيق تاريخي مستقل.

الإرث الثقيل

ويرى كثير من الحقوقيين والباحثين أن مسار العدالة الانتقالية في موريتانيا لا يمكن أن يكتمل دون معالجة ملفات تاريخية كبرى، تُعدّ من أبرزها:

ملف أعمارة النعمة (1962):، لكونه أول حالة إعدام سياسي بعد الاستقلال، ولأن غموضه التاريخي يظل مؤثرًا على الذاكرة الجماعية.

ملف "الكوماندوز" (محاولة انقلاب 1982)، حيث أُعدم عدد من صفوة العسكريين أو تعرضوا للاختفاء القسري.

ملف إعدامات 1987: الذي طاول ضباطًا من شريحة معينة في حكم ولد الطايع، وما يزال يحتفظ بحمولته السياسية والإنسانية، وانتهاء بانقلاب فرسان التغيير الغامض!.

ويرى المدافعون عن فتح هذه الملفات أن الدولة، إن أرادت ترسيخ شرعية أخلاقية راسخة، فعليها أن تبدأ من جراحها الأولى، وأن تبني ثقة جديدة مع مواطنيها عبر التحقيق، والاعتراف، وردّ الاعتبار حيث يلزم.

إن النقد التاريخي لا يهدف إلى إدانة الأشخاص بقدر ما يهدف إلى فهم لحظة التأسيس، وهي لحظة كانت فيها الدولة الموريتانية تحاول أن تتوازن بين الاستقلال الشكلي وبين الارتباط الوثيق بالفرنسيين، وبين مطلب الأمن ومطلب الحرية، وبين تأسيس الشرعية ومخاوف الانهيار.

لكن ما يبقى ثابتًا هو أنّ الذاكرة الموريتانية ما تزال تعيش على وقع أسئلة بلا أجوبة:

هل كانت تلك المحاكمات عادلة؟

هل كان الإعدام ضرورة سياسية أم امتدادًا لنفوذ المستعمر؟

وهل يمكن بناء مستقبل بلا كشف حقيقة الماضي؟

إن فتح هذه الملفات، بروح العدالة الانتقالية لا بروح الانتقام، هو الطريق الوحيد لكي تطهّر الدولة يدها من إرث العنف السياسي، وتؤسس لصفحة جديدة يكون فيها الإنسان هو القيمة العليا، ويكون فيها التاريخ درسًا لا لعنة.

مولاي الحسن مولاي عبد القادر