
يعد الفساد في موريتانيا أحد الأزمات الكبرى التي تعرقل تقدم البلاد، ويشكل عقبة رئيسية أمام جهود التنمية والإصلاح.
ورغم أن الحكومة تروج دائمًا لمواقفها المعلنة في مكافحة الفساد، إلا أن الواقع على الأرض يشير إلى حالة من التواطؤ الصامت أو في بعض الأحيان التبرير المكشوف لممارسات فساد متعددة، والتي تجد دائمًا مبرراتها في ثقافة متجذرة عبر الأجيال.
ولعل المشكلة الأساسية تكمن في تجاهل السلطات الحاكمة لهذا الملف، والتقاعس المستمر عن اتخاذ خطوات حاسمة لإنهاء هذه الظاهرة المدمرة.
الفساد.. من خجل إلى استفحال
بدأت ممارسات الفساد في موريتانيا بشكل خجول في مراحل تكوين الدولة، حيث كانت محصورة في دوائر ضيقة من المسؤولين.
ومع مرور الزمن، أصبح الفساد يشكل جزءًا لا يتجزأ من الهيكل الإداري للدولة.
ولسوء الحظ، فإن هذه الظاهرة لم تكن نتاجًا لعوامل عابرة، بل هي تراكمات لسياسات خاطئة أفضت إلى تحويل الفساد إلى "ثقافة"، ترتكز على تبريرات قديمة تروج لها بعض الأطراف على أنها "حكمة" أو "شعائر دينية".
تلك التبريرات لم تكن سوى غطاء شرعي لتجاوز القوانين ونهب المال العام، مما جعل الفساد يتحول إلى سلوك طبيعي يتم السكوت عليه.
من أبرز الأمثلة التي يتم ترويجها هي الأقوال الشعبية مثل: "لحم العلماء مسموم" و"ولي اتول شي ظاقو"، والتي تقدم كحكمة مكتسبة من تجارب الأجيال.
هذه الأمثال التي تدعي الحكمة تخفي في طياتها رسالة مزدوجة؛ الأولى، تحث على التسامح مع الممارسات الخاطئة، والثانية، تتقبل الفساد بوصفه أمرًا لا بد منه في بعض الحالات.
تلك الأقوال الشعبية التي يتم تداولها بين العامة، تجد في الواقع طريقها إلى قلوب المسؤولين الذين أصبحوا يتعاملون مع هذه الممارسات على أنها جزء من "الواقع الموريتاني"، وليس كجريمة يجب معاقبتها.
تبرير الفساد
تزداد الأمور تعقيدًا عندما يأتينا خطاب الحكومة في شكل تصريحات روتينية تنفي وجود الفساد أو تبرر بعض ممارساته على أساس "الضرورات".
ففي أغلب الأحيان، يتم ترويج عذر "الظروف الاستثنائية" أو "ضرورة الحفاظ على الاستقرار" كتبرير لاستمرار العديد من الممارسات التي تضر بالاقتصاد الوطني.
هذا التبرير لم يعد مقنعًا، بل أصبح أقرب إلى "عملية تسويغ" تعطي الضوء الأخضر للمفسدين للاستمرار في نهب المال العام دون أي رادع.
وبينما تسعى الحكومة إلى إظهار جهودها في محاربة الفساد من خلال تشكيل هيئات وأجهزة رقابية، إلا أن هذه الأخيرة غالبًا ما تكون مجرد واجهات تفتقر إلى الصلاحيات الفعلية، أو يتم توظيفها لتجميل الصورة الإعلامية فقط، في وقت تعيش فيه قطاعات أخرى خارج دائرة المساءلة، وتظل ممارسات الفساد مستمرة بلا توقف.
مجالس بلا فائدة
تحت مظلة هذه الثقافة، تشكلت مجالس وهيئات ومؤسسات حكومية لا تقدم أي خدمة تذكر للمواطن، ومع ذلك تصرف عليها مليارات الأوقية من أموال الشعب الموريتاني الجائع.
إن عدم وجود رقابة حقيقية أو آليات شفافية داخل هذه المؤسسات يجعل من الفساد عملية مستمرة لا تنتهي، ويخلق بيئة لا تشجع على الإنتاج أو تقديم خدمات حقيقية للمواطنين.
بل إن هذه الهيئات تحول من خلال ممارساتها السلبية إلى جزء من النظام الذي يحافظ على مصالح فئة قليلة على حساب الشعب بأسره.
حملات مضادة
تجدر الإشارة هنا إلى أن هناك حملات مضادة لمكافحة الفساد تسعى إلى جعل بعض القطاعات فوق المساءلة، وهي سعي لتبرير حالة من التواطؤ بين المسؤولين في الحكومة وبعض القطاعات الحساسة، مثل الجيش والأمن، والتي تُستثنى عمداً من أي تفتيش أو محاسبة.
إن هذا الاتجاه في التعامل مع الفساد يعكس عدم وجود إرادة حقيقية للقيام بإصلاحات جذرية في بنية الدولة.
فبمجرد أن يتم استثناء قطاع من المساءلة، يصبح بمثابة حماية للمفسدين في هذا القطاع، وتتحول السلطة إلى مجرد أداة لتغطية ممارسات الفساد.
إجراءات حاسمة
لا بد من اتخاذ إجراءات حاسمة وواقعية لمكافحة الفساد في موريتانيا، وأولها عدم استثناء أي فئة أو قطاع من المساءلة.
ينبغي أن تكون هناك قوانين صارمة تعاقب كل من يشارك أو يساهم في ممارسات الفساد، مهما كان منصبه أو موقعه الاجتماعي.
كما يجب تعزيز الشفافية في إدارة الأموال العامة، وتحسين مستوى الرقابة، بحيث يكون لكل مواطن الحق في معرفة كيفية صرف أموال الدولة.
الأمر لا يتعلق فقط بتغيير الخطاب الحكومي، بل يتطلب التزامًا حقيقيًا بسياسات واضحة، تضمن محاسبة المسؤولين عن أي تجاوزات مالية أو إدارية.
فالفساد في موريتانيا ليس مجرد مشكلة اقتصادية، بل هو أزمة أخلاقية وسياسية تشوّه صورة الدولة، وتعرقل مسيرتها نحو التقدم والازدهار.
ومهما يكن من أمر، فإن الفساد في موريتانيا قد أصبح، للأسف، جزءًا من الواقع اليومي الذي لا يمكن تجاهله.
ولكن ما يزيد الأمور تعقيدًا هو أن الحكومة، رغم تصريحاتها المناهضة للفساد، لا تزال عاجزة عن اتخاذ خطوات جادة في محاربته.
في ظل هذا الوضع، يتوجب على السلطات الموريتانية أن تتخذ إجراءات حقيقية وشجاعة، وأن تتحمل مسؤوليتها في محاربة الفساد بكل أشكاله، بعيدًا عن أي تبريرات أو تسويغات.
فالفساد إذا استمر في هذا المسار، فإن البلاد ستظل تدور في دائرة مفرغة من الفشل والضياع.
مولاي الحسن مولاي عبد القادر




















