
لا تزال القبلية في موريتانيا أقوى من القوانين، وأعتى من دعوات الإصلاح، وأشد حضورًا من قيم المواطنة التي يُفترض أن تكون أساس الدولة الحديثة.
وما زال أبناء هذا الوطن يدفعون ثمن عدم انتمائهم القبلي، أو ضعف نفوذ مجموعاتهم، في وطن يُفترض أن يكون سقفه واحدًا وحاضنًا للجميع.
إنها مأساة موريتانية صامتة، يدفع ضريبتها كل من قرر أن يكون “مواطنًا فقط”، لا مجرد تابع لشيخه أو ممثله أو جماعته.
لقد تحولت القبلية، في واحدة من أكثر صورها فجاجة، إلى بوابة التوظيف الأولى، وجواز المرور إلى المناصب، ومفتاح الفرص، حتى غدا الانتماء القبلي معيارًا أهم من الشهادة والكفاءة والخبرة.
ولستُ وحدي من اكتوى بنار هذا الواقع، بل آلاف الشباب الذين وجدوا أنفسهم خارج قطار الوظيفة فقط لأنهم لم يحملوا ختم القبيلة الذي تمنحه الأنظمة المتعاقبة صفة “الوسيلة الرسمية غير المعلنة” في مسار الدولة.
ومع أن الحديث الرسمي بدأ أخيرًا يتطرق إلى خطورة هذا الانزلاق، فإن جرح القبلية ما يزال ينزف.
فقد أصدر الوزير الأول المختار ولد أجاي تعميمًا موجّهًا لأعضاء الحكومة ومؤسسات الدولة، يمنع الموظفين والوكلاء العموميين من المشاركة في أي تجمع ذي خلفية قبلية أو فئوية، ويُلزمهم بالانسحاب فورًا من أي لقاء تظهر فيه نزعة توظيف قبلي أو خطاب تحريضي عرقي أو جهوي.
وجاء هذا التعميم تنفيذًا لقرار الرئيس الذي أعلنه من انبيكت لحواش، حين صرّح بحظر الاجتماعات القبلية على موظفي الدولة، باعتبارها خطوة تستهدف تجفيف منابع الانقسام وضمان حياد الإدارة عن الصراعات التقليدية.
ورغم أهمية هذه القرارات وما تبعثه من أمل في صدور المظلومين، فإنها تظل حبيسة الورق ما لم تُترجم إلى أفعال حقيقية.
فالتجربة مع الأنظمة المتعاقبة تُظهر أن الفجوة بين الخطاب الرسمي والواقع لا تزال واسعة، وأن التناقض بين الأقوال والأفعال ما زال هاجسًا يقلق كل من يحلم بدولة قانون لا دولة قبيلة.
فالكل يعرف، ولا مجال لإنكار ذلك، أن القبلية لعبت دورًا حاسمًا في جميع الانتخابات الرئاسية، وظلت حاضرة بقوة في تشكيل الحكومات، واعتمدتها الدولة معيارًا ثابتًا في التعيينات والتوظيف.
وما زال الوضع قائمًا إلى حد بعيد حتى اليوم، وإنْ خفت حدته في الخطاب الرسمي، إلا أنه ما يزال متجذرًا في الممارسة.
والسؤال الجوهري الآن: هل سيبقى حظر الاجتماعات القبلية مجرد خطوة شكلية؟ أم أنه سيكون بداية لقرارات أكثر جرأة تمنع التعيين على أساس قبلي، وتفكك البنى التي جعلت من القبيلة دولة داخل الدولة؟
إن تجفيف منابع القبلية لا يحتاج فقط إلى بيانات ومنشورات، بل إلى إرادة سياسية حقيقية، وإلى ثورة داخل جهاز الدولة تُعيد الاعتبار للمواطنة، وتكسر حلقة النفوذ التقليدي، وتُخضع الجميع لقانون واحد، لا لقوانين القبائل المتعددة.
وحتى يتحقق ذلك، سيظل أبناء هذا الوطن يتساءلون: متى يصبح الانتماء إلى موريتانيا أهم من الانتماء إلى القبيلة؟ ومتى تتوقف الدولة عن معاقبة من يختار أن يكون مواطنًا فقط؟
مولاي الحسن مولاي عبد القادر



















