الاحتفال بذكرى الاستقلال.. طقوس الزخرفة والفساد في المؤسسات العمومية

أربعاء, 11/26/2025 - 11:19

مع اقتراب ذكرى الاستقلال الوطني، تنشط بعض المؤسسات العمومية في الزخرفة والتجميل، تروج لنفسها بألوان العلم الوطني والشعارات التي تُمجد السلطات العليا، ولكن وراء هذه المظاهر الزائفة، يكمن واقع مرير من الفساد المالي والإداري الذي يتفشى في صلب هذه المؤسسات.

فبينما ترفع هذه المؤسسات شعار "الوطنية" و"الاحتفال بالاستقلال"، تصبح هذه المناسبة فرصة لتبرير نهب المال العام، وتوسيع دائرة الفساد على حساب المال العام والمواطنين.

تحضيرات موسمية لم تعد بريئة

أصبح من الملاحظ أن العديد من المؤسسات العمومية تتسابق في تزيين مقراتها بالأعلام والشعارات الوطنية مع اقتراب المناسبات الوطنية، خاصة في ذكرى الاستقلال.

ورغم أن هذه الاحتفالات تحمل طابعاً وطنياً في ظاهرها، إلا أنها أصبحت تُستغل لتبرير عمليات صيانة ضخمة وتحسينات في المقرات الحكومية على الميزانيات.

وفي هذه الممارسات، يُظهر مسؤولو هذه المؤسسات خضوعهم لظاهرة تزيين المقرات وكأن ذلك واجب وطني، لكن الحقيقة المرة أن هذه المشاريع يتم تمويلها بمبالغ خيالية، وبطرق غير شفافة.

الفساد والنهب تحت غطاء "الاحتفال"

وعلى الرغم من أن بعض أعمال تجميل اولإصلاحات قد تكون ضرورية، إلا أن الواقع يشير إلى أن هذه العمليات غالباً ما تُنفذ دون أية رقابة حقيقية، لتتحول إلى مصدر للثراء السريع للمسؤولين عن هذه المشاريع.

ولعل أرقام الفواتير التي يتم إصدارها لهذه العمليات البسيطة في الظاهر، تعكس بشكل جلي حجم الفساد المستشري، حيث تقدر بعض التكاليف التي تنفق على "تحسين" المقرات العمومية بمبالغ تصل إلى عشرات الملايين من الأوقية، وهو ما يعتبر نهباً غير مبرر للمال العام، في وقت تزداد فيه معاناة المصادر البشرية نتيجة لتدني الرواتب والأجور في المؤسسة دون حقوق أو ضمانات, في ظل ارتفاع الأسعار وتكالف الحياة.

انتشار الفساد في المؤسسات العمومية

لا يخفى على أحد أن الفساد في المؤسسات العمومية الموريتانية قد أصبح سمة مميزة في معظم هذه المؤسسات، وخاصة في تلك التي تحمل طابعاً إدارياً.

فهذه المؤسسات، التي أنشأتها الدولة لتقديم خدمات عامة للمواطنين، أصبحت مرتعاً لنهب المال العام، في ظل غياب الرقابة والشفافية.

فالممارسات الفاسدة التي تمارس في هذه المؤسسات تتراوح بين تبديد الأموال في مشروعات غير ذات جدوى، إلى تبديدها في صفقات مشبوهة تمتلك فيها حفنة من المسؤولين القدرة على التلاعب بالمناقصات والصفقات الحكومية.

تدوير المفسدين

تشكل مشكلة الفساد في موريتانيا من أبرز التحديات التي تعيق مسار التنمية وبناء دولة المؤسسات.

فعلى الرغم من الجهود الرسمية لمحاربته، إلا أن الفساد كثيراً ما يصطدم بعقليات اجتماعية راسخة تُقدّم النفوذ والولاء القبلي على المصلحة العامة.

هذا التداخل بين النفوذ القبلي وآليات الدولة يجعل المحاسبة أمراً صعباً ويضعف ثقة المواطن في العدالة.

كما يؤدي إلى استمرار شبكات المحاباة وتوزيع المنافع على أساس الانتماء لا الكفاءة.

ولا يمكن مواجهة هذه الظاهرة إلا بإصلاحات عميقة تعزز المواطنة والشفافية وتقلّص تأثير البنى التقليدية والعسكرية على القرار العام.

وفي السياق ذاته، لا تزال سياسة التعيين في المؤسسات العمومية تتم بناءً على العلاقات والمحسوبية، وليس بناءً على الكفاءة أو النزاهة.

فبدلاً من تعيين موظفين أكفاء ونزيهين، يتم تكريس سياسة "تدوير الفساد" من خلال إعادة تعيين الأشخاص تقف وراءهم شخصيات نافذة، رغم تورطهم في عمليات فساد سابقة.

وهذا يساهم في خلق دائرة مفرغة من الفساد حيث تُعاد نفس الوجوه الفاسدة إلى مناصب أخرى في مؤسسات جديدة، ليواصلوا استنزاف المال العام.

الفساد في مناسبات وطنية وزيارات الرئيس 

من الممارسات المثيرة للجدل أن بعض المؤسسات الفاسدة تتعمد استغلال المناسبات الوطنية، مثل الاحتفالات بذكرى الاستقلال أو الزيارات الرسمية لرئيس الجمهورية، لتبرير عمليات نهب المال العام.

هذه المناسبات تصبح بمثابة غطاء لتنفيذ مشاريع غير ضرورية، بهدف صرف الأموال تحت مسميات "الاستعدادات الوطنية" أو "التحضيرات للزيارة الرسمية".

وفي كثير من الأحيان، يتزامن ذلك مع نهاية السنة المالية، حيث يتم دفع الأموال بشكل متسارع، في محاولة للاستفادة من الميزانيات المتاحة قبل إغلاق الحسابات.

الحاجة إلى معالجة جذرية

إن ظاهرة الفساد المستشري في المؤسسات العمومية تتطلب معالجة حقيقية وجذرية.

لا يمكن الاستمرار في وضع يتم فيه التغاضي عن الممارسات الفاسدة، بينما يعاني المواطن الموريتاني من تدهور الخدمات العامة وارتفاع تكاليف الحياة، حيث يجب أن يُتوقف بشكل فوري "تدوير المفسدين"، ويتم وضع آليات حقيقية للمحاسبة والمراقبة الفعّالة.

إن ما تحتاجه موريتانيا في هذه المرحلة هو تفعيل القضاء على الفساد بكافة أشكاله، وفرض رقابة صارمة على جميع المؤسسات العمومية.

كما يجب أن تكون هناك محاسبة حقيقية للمسؤولين ومن يقف وراءهم، عن التلاعب بالمال العام، وذلك بتفعيل الشفافية في صفقات الدولة والمشاريع الحكومية.

كما يجب وضع سياسات تشجع على التوظيف وفقاً للكفاءة والنزاهة، وليس بناءً على العلاقات والمحسوبية.

ومهما يكن من أمر، فإن بناء دولة المؤسسات والقانون في موريتانيا يتطلب إرساء سياسات حازمة، تبدأ من تعزيز الرقابة على المال العام، وتفعيل العدالة، وتشجيع الشفافية في الإدارة العامة.

ولا يمكن لأي احتفال بذكرى الاستقلال أن يكون حقيقياً, إذا كان يعكس صورة مشرقة فقط في المظاهر، بينما تغرق المؤسسات في ظلمات الفساد والظلم.

مولاي الحسن مولاي عبد القادر